أرشيف

قصة مسيرة بدأت بأربعة أشخاص وانتهت بحشود تهز أرجاء العاصمة

عند بزوغ فجر يوم الجمعة 23ديسمبر كان كعادته قد سبقنا جميعاً إلى حيث حدد مكان تجمع الخارجين لاستقبال مسيرة الحياة على عرض الطريق.. كان أحمد حاشد وثلاثة من الشباب والمصور أول أربعة يصلون إلى جولة 20 تقاطع شارع الدائري.. كان من العيب ألا يخرج الثوار لاستقبال مسيرة الحياة قبل دخولهم صنعاء بعد أن تجاوزوا الخطوط الحمراء من تعر وإب ويريم وذمار التي باتوا الليلة فيها.. كانت مسيرة الحياة تفرض علينا أن نحطم نحن أيضاً بدورنا الخطوط الحمراء الممنوع من ثوار ساحة التغيير أن يتجاوزنها، وكنا نظن ان اللجنة التنظيمية ستسارع الى تسهيل مسيرتنا لكنها تعاملت مع الموقف تعاملاً بعيداً عن التقديرات التي تحملها المسيرة القادمة من تعز..

 منصور السروري

 أدركت أن رائحة الحسابات السياسية تواصل تصدير “زكامها” إلى أنوف الثوار الغريب هنا أن اللجنة التنظيمية “للمشترك” أختارت شخص يمتلك من قدرات إقناعية ولأن من سيخرجون لاستقبال مسيرة الحياة هم من الاشتراكيين وأنصاره ومن المستقلين، وقد بدأ ينفرد بمن يعرفهم وينصحهم بالتراجع، وذهب يحاول بدبوماسية إقناع القاضي (حاشد) ويتدرج من لغة إظهار الرحمة والشفقة إلى لغة الجدل انتهاء بلغة التحذير والتهديد والسخرية: بحيث راح يقول عندما شاهد المتوافدين بمكان التجمع هذا وزنكم يا قاضي- قالها بسخرية وواصل لا يزيدون عن 200 نفر.. هذه هي مشكلتكم دائماً، فرد عليه حاشد : خرجت في البداية ومعي أربعون شاباً وكبروا حتى صاروا 400 وتضاعفوا،حتى أخرجوكم من بيوتكم . فرد عليه ذلك الشخص سوف تتحمل المسؤولية إذا تعرض هؤلاء الشباب لأي خطر.. فقال له القاضي: أنا أتحمل المسؤولية، وأصلبوني حينها بالسبعين، ولعلمك سأخرج لاستقبال مسيرة الحياة وحدي إذا تطلب الأمر.

وكما قلت استطاع هذا الشخص الثائر التأثير على نفر ممن كانوا سيخرجون معنا، وكررنا نحن عليه طلب سيارة أسعاف من المستشفى الميداني وفريق طبي لمرافقة المسيرة فاعتذر قائلاً: ومن أنتم حتى نعطيكم سيارة إسعاف؟ أنتم تتحملون المسؤولية لأنكم خالفتم قرار الساحة.. أحسست أنه قالها بهزيمة وعجز، وأنه لا يمتلك أدنى قدرة على التأثير على اللجنة التنظيمية أو المستشفى الميداني.

مرفوع الهامة أمشي

تحركنا من جولة (20) لدائري ناحية مطعم وفندق إيجل وبعد تجاوزنا حاجز الساحة كان عددنا يقارب الـ800 ثائر ولجنة النظام تابعة للتحالف المدني.

وقفنا نؤدي النشيد الوطني.. وتخيلت الفضول وهو يكتب هذا النشيد كأنه كان لحظة كتابة “رددي أيتها الدنيا نشيدي…” كأنه كان يرانا هو وأيوب، وأنهما وضعا هذا النشيد لهذا الجيل ولهذا التاريخ..

تحركت المسيرة منطلقة مع صوت مراسيل (منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي في يدي قطفة زيتون وعلى كتف نعشي وأنا وأنا وأنا أمشي) ومشينا ناحية جولة مارب

سحق الخطوط الحمراء

لأول مرة منذ انطلقت الثورة في 11 فبراير يعبر الثوار خطوط برليف الحمراء سحقنا خط مأرب شعوب.. رافعين شعارات وهتافات ثورية.

كانت اللجنة قد درست خط السير وأوهمت المتسائلين عنه بأنها ستسلك تارة خط التحرير، وتارة السائلة المؤدية لباب اليمن، وثالثة جولة الصياح باب شعوب الذي يمر أمام السينما الأهلية ويخرج إلى شارع خولان، لكنها أثناء السير سلكت خط مارب شعوب، وانعطفت بخط فرعي أفضي بالمسيرة إلى شارع مسيك وهذه هي أول مرة تسمع تلك الأحياء وتشهد الشوارع فيها مسيرة.

سيف بن ذي يزن غير مصدق

كان سيف ين ذي يزن غير مصدق الذي يراه واستيقظ على دوي الهتافات بعد    1450 سنة من النوم.. أطل من على بقايا قصر غمدان ينظر إلينا نظرتان ممزوجتان بالحسد والاعجاب في أن واحد.. حسد الثوار من رفضهم الإرتهان والتبعية  والاعجاب في أن أحفاده أعظم منه في الاعتماد على الذات اليمنية في إجلاء الإحتلال أياً كان نوعه خارجياً استعماري أم داخلي استبدادي.. ودعت قصر غمدان على أمل العودة إليه.

عبرنا الخطين الأحمرين (شعوب ومسيك) وعرجنا على اللامستشفى الثورة صوب مقبرة الشهداء، وكان أيوب طارش ينادي السماء “يا سماوات بلادي باركينا” ولم تبخل علينا السماء بالإجابة فقد تسابق الشهداء خارجين من قبورهم ليروا الجيل الرشيد الذي بات يعرف الطريق جيداً.. جيل لا يعرف الظلال ولا العيش في الظلال.. ابتسم الشهداء وهم يرون هاماتنا تعلو فوق ضحاوات الأيام التي أشرقت منها شمس الثورة من تعز نعم تعز هي رسالة لكل ثوار العالم.. بل كتاب ثورات العالم.. من أراد أن يصنع ثورة فعليه بتعز..

الحواجز تنهار أمام هيجان الثورة

من أمام فرزة تعز بدأنا خطوة العبور الأولى في أخطر خط أحمر.. أعتذرنا لسائقي البيجوت بالفرزة لأننا هذه المرة لن نسافر إلى تعز، وإنما لاستقبال ثوار مسيرة الحياة القادمين من تعز قرأت في عيون الناس الذهول وهي ترى المئات من الشباب الذكور والإناث ومن شيوخ وأطفال يحثون الخطى هاتفين “الله أكبر حرية” “يا تعز أنت مصدر الثورة” “إرفع رأسك فوق أنت يمني حر” رأيت الأسئلة في عيون البعض تتطاير: هل هؤلاء أغبياء؟ أم مجانين؟

ألا يدركون حجم الخطر الذي يسيرون نحوه؟ يا مجنون إرجع!

شخص نادى الذي دخل وسط المسيرة ورد عليه “خليك أنت عاقل أما أنا مجنون” تذكرنا المثل الشعبي “جنان يخارج ولا عقل يحنب” إن هذا الشعب يجب أن يتعلم درساً في الجنون لم يعد أمامه ليستعيد الحياة غير أن يجن.

وما المانع أن تكون ثورتنا مجنونة؟ ماذا نفع تعقل أبائنا؟ وماذا جنينا من العقلانية 33سنة.. نعم هؤلاء الشباب مجانين ولكن مؤقتاً “مجانين الثورة” حقيقيين وليسوا مجانين مزيفين كأولئك الذين نعرفهم بل لا يوجد مجانين أشد جنوناً منا من أولئك المجانين القادمين من تعز وعلى حد “نزار قباني” يا مجانين غزة علمونا فإن نسينا قلوبنا الرجال صاروا عجينا.

استجابت السماء دعاء أيوب “يا سموات بلادي باركينا” وما أن تجاوزنا جولة تعز حتى كان عددنا يقارب الثلاثة آلاف.. وأخذت المسيرة تكبر وتكبر وتكبر حتى كان قوامها يقارب العشرة ألف حينما وصلت سوق حزيز ومرورها بمعسكر الحرس الحمهوري بالسواد.

سحقت المسيرة الحاجز الأحمر في حزيز حاول بلاطجة صالح مهاجمتها كانوا أكثر من ألف.. حطموا زجاجي سيارة أجرة كانت في المقدمة، وأصيب سائقها بجرح بسيط ولكن الطقم الأمني الذي كان يرافقنا بعد إطلاقه النار في الهواء، وهجوم الثوار على البلاطجة جعلهم  يلوذون بالفرار سحق الحاجز الأول في الخط الأحمر، ومضت المسيرة بإرادة وعزم فولاذيين خارجة من صنعاء ناحية قاع القيظي.

 والله ما تخطو  قدم تعزي تراب سنحان

أصوات الرصاص تعلو أجواء قاع القيظي.. فوق عيون جنود الأمن الرعب يعلو، داخلها الجبن يستوطن، وعلى ألسنتهم البلاطجة يقسمون الأيمان أنهم ليسوا من أتباع صالح ولن يمتثلوا لأوامره إن طلب منهم عدم مواجهة مسيرة السلام.. ويقسمون بالله ما تدوس أقدام التعزيين شبراً من تراب سنحان، ولكن هيهات لهذه العبارات أن  تهز أوتاد الشموخ الثوري في أنفسنا .. أدى الثوار صلاة الظهر وتناولوا الغذاء، و انطلقوا مواصلين سيرهم لاستقبال مسيرة الحياة تحت أزيز الرصاص من تلال قاع القيظي.

منظر الثوار بصدورهم العارية وهم يهاجمون البلاطجة المسلحين كان سورة في الشجاعة وعبرت الإصابات القليلة عن أن البلاطجة  منهارين تماماً وإلا لكانوا أطلقوا ناحية الثوار طلقات قاتلة بدليل أننا في نقطة قحازة التي تبعد بضعة كيلو مترات من تلال القيظي رأيت البلاطجة يرفعون آلياتهم لكن لم يتجرؤا من إطلاق الرصاص.. وأخذوا يصوبونها إلى الهواء، ويقذفوننا بالأحجار كانت تمثيلية رائعة عشرات الأطقم والعربات المصفحة من الحرس الجمهوري، ومن جوارها مسلحين بثياب مدنية يهاجمون المسيرة ولم يتوقفون إلا عندما هاجمهم مسلحين فوجئنا بهم معنا وهددونهم بالموت إلى جانب تعز قيل أنهم من أحرار سنحان لتخرج المسيرة ساحقة أخر حاجز الخطوط الحمراء.

قلت للقاضي لحظتها: الحمد لله الذي كتب لنا هذا الشرف، خرجنا أول الناس في 15 يناير نهتف بإسقاط النظام، وها نحن نسحق ثانية المربع الذي حدد لثورتنا أن تمارس ثوريتها داخله منذ حادثة ومجزرة بنك الدم والثورة محدد نطاقها واليوم سحقنا هذا المربع والخطوط الحمراء التي كانت محظور تجاوزها.. ومضينا ناحية نقيل يسلح.. كانت النساء رغم قلة أعدادهن عن الذكور مائزات عنا أكثر.. تنبعث من عيونهن الأحلام القادمة، والحب الطاهر لتراب هذه الأرض، لا يكلن من السير، ولا يملن من الهتاف، تقرأ من خطواتهن الثابتة ثقة تتجاوز ثقة الشمس بأشعة ضوئها..

ماذا عساني آصفكن أيتها المريميات وأنتن أكبر من كل توصيفات الكلمات؟ (أروى عبده عثمان) كم أنت رائعة وأنت تنقشين بعدسات كاميرتك خطوات الثوار..

جميلة الوجرة أيتها المعجونة من ضنك الكدح وعشق التضحية، وعين النضال، حنين الكرامة.. كم أنت عملاقة وأنت تشحذين أرواح الثائرات والثوار بالعزيمة والإصرار.

فتاتان كانتا تتقدمان المسيرة ترفضان السير خلف أخوانهن الثوار منذ خرجنا من ساحة التغيير حتى وصلنا منطقة خدار بلاد الروس.

إنها الثورة التي تعلمنا كيف ننظر لكل فتاة معنا نظرة ملائكية.. وكأنهن حقاً من المحرمات لنا وهنا حقاً محرمات لنا أخلاقاً وثقافة.. لأنهن شرف هذه الثورة..

ثمة (أعجم) كان دائماً في المقدمة يأبى أن يسبقه ثائر.. كلما عرف فرد أنه أعجم يقول هذه هي الثورة الحقيقية التي يجب أن تعيد للجميع الحياة .. لو كان هذا الأعجم نال حقوقه ما كنا لنراه يتقدمنا..

كثيرون تفاجئت بهم ولم نعد نلتقى بهم غير من سنوات الدراسة (عبد القادر علوان وسمير المعمري).. وكان عبد الرزاق عبد الله متألقاً لقد رأيته يقل عشرون سنة عما كان عليه قبل الثورة و بدا لي السبب: أن هذه الثورة بعثت الآمال من جديد في نفوسنا وكان (عادل عبد الرزاق) يزداد إصراراً في الماضي بعيداً في تحقيق هذه الثورة لأهدافها في بناء دولة مدنية حديثة. وكان هناك القاضي أحمد سيف حاشد يسير راجلاً رافضاً ركوبه السيارات إلا بأيمان مغلظة تصل إلى حد الطلاق إن لم يركب، فيضطر لعدم وقوع كارثة كهذه الصعود لمسافة لنراه ثانية ماشياً..

جايين.. جايين..

على الطريق المتلوي كالأفعى بين أوهدة الحقول الصفراء والتلال القاحلة كانت المسيرة تغد السير للإلتحام بمسيرة الحياة. ثورات الشمس خلف جبال بلاد الروس القفراء من الأخضرار ولما كنا نعبر قرية وعلان كانت مآذنها تصدح بأذان المغرب ودخلت المسيرة في ثنايا القمة الحالكة.. تأخرت لتناول الشاي.. كانت المسيرة قد تباعدت وعندما أسرعت لتداركها إذا بي أمام أصوات تخترق سكون الليل ويردد (حيو.. شباب العاصمة) يا صنعاء جايين جايين.. يا عفاش أين شتهرب، السبعين يقرب يقرب.. وفي حضن الليل تعانقنا عندما وصلنا خدار..

لحظة لن تنسى

 يا لها من لحظة لن تنسى سوى عندما ترتق عينيا رتقتها الأخيرة لحظة لن يتذوقها أبدأ من لم يعيشها حقيقة.. لحظة التحام المسيرتين في قرية خدار من مديرية بلاد الروس.. مسيرة الحياة التي أنطقت من تعز  بمسيرة الإرادة التي سحقت الحواجز الحمراء من صنعاء فاتحة الثورة.. لحظة اعتناق حواري ساحة الحرية بحواري ساحة التغيير. لحظة تعثر فيها الثوار بدموعهم الملتهبة.. تمازجت دموعنا من تسنيم الأرض المطفوحة من أدران جبن همجي متخلف صبرنا على خسته عقود ثلاثة وزدنا عليها ثلاثة سنين.. بكينا على صبرنا على أن كيف أضعنا الحياة بيد جاهل فاسد عابث أحمق قاتل؟ وحين كبرنا على صمتنا أبى إلا أن يستبدنا كان المذلة هي كل ما يدخره لنا من حقوق الحياة..

زر الذهاب إلى الأعلى